أرشيف

سباق الرئيس مع الزمن: بناء تحالف جديد وبناء الكارثة

يهرول الوضع عندنا نحو الكارثة. فبماذا انشغل الرئيس عنه؟ الجواب السائد هو ان الرئيس منشغل ببناء تحالف جديد يسمح له بسحق المعارضة، اما الوضع فسيبقى في سلة المهملات. لكن لماذا بناء تحالف جديد؟

تحالف الرئيس القديم قد تآكل وفقد صلاحيته. وللرئيس دور في ذلك ايضاً. فتحضير التوريث دفعه الي التخلص من الكثير من حلفائه في صفوف الضباط والمشائخ والمطاوعة والسياسيين المحترفين والتجار. فهؤلاء الحلفاء، وفق نظرية الرئيس في الثعابين، خطرون ولن يخدموا التوريث الذي يلزمه تحالف شبابي جديد. ونجد هنا تطابقاً بين عهدي الرئيس الجمهوري والامامة. فالتوريث كان سبباً لتخلص الامامين يحي واحمد من حلفاء رئيسيين لهما. والتحالفات سنة من سنن السياسة في العالم كله فإن انعقادها وانفراطها ليسا اشكاليين كما هو الحال عندنا. فهي تتشكل ثم تنفرط تلقائياً مع تداول السلطة المتقارب زمنياً، سواء كان ذلك التداول ديمقراطياً او لا (انقلابات) . لكن طول فترة الرئيس عندنا جعلت التحالف حوشاً تتكدس فيه كل مرة عناصر اضافية حتى تضخم زيادة عن اللزوم وتحولت عناصره المتنافرة الى التصارع وتعطيل بعضها عمل البعض الآخر، الامر الذي حوله الى ظاهرة مرضية وليس عامل فعالية. بل مع خروج او تواري العناصر الفعالة منه يمكن القول انه لم يبق فيه الا الحمقى او اللصوص (حسب اتهام الرئيس في خطابه امام مؤتمر الحزب الحاكم الأخير) وهؤلاء يفوق ضررهم بكثيرالنفع المرجو من التحالف. فنتيجة عدم الفعالية بارزة في كل مكان: من فشل عسكري في صعدة، الى فشل سياسي في الجنوب، الى عجز عن اجراء الانتخابات في موعدها، الى انهيار الوضع الاقتصادي والامني، الى سقوط ترسانة اعلام الرئيس بالضربة القاضية في منازلات مع صحفيين فرادى ومجردين من الامكانيات، وانتهاءً بانقطاعات الكهرباء والماء، والغش المعمم في امتحانات التعليم العام.

 

بالطبع، من وجهة نظر الريع (الفيد) بناء تحالف جديد "أَخْرجْ" من ترميم التحالف القديم. فكلفة اي تحالف لاينبغي ان تتجاوز مردوده. وقد ذكرنا ان تكلفة التحالف القديم اصبحت تفوق مردوده، بينما التحالفات تكون رخيصة الثمن في بدايتها ومن ثم يكون مردودها اعلى من كلفتها. 

 

لتوضيح هذه النقطة نلفت الى ان تحالف الرئيس القديم كان فعالاً في بدايته لانه كان رخيص الثمن. فالمطاوعة والمشايخ والضباط قصفوا عمر نظام الحمدي الوطني وعمر جبهة المناطق الوسطى ثم عادوا مع "البدو" (خلف عبدربه منصور) لمواجهة الاشتراكي في حرب 94 ولتمرير التعديلات الدستورية، وكل هذه الانجازات البطولية خدمت الرئيس وحده حيث لازال يحكم حتى اليوم. اما بالنسبة للحلفاء، فحصل كبار المشايخ فقط على بعض الريع المادي كمكافأة او تم احالتهم على اكراميات الجيران بينما ظل اتباعهم من عامة القبائل ضحايا للفقر المدقع ولانعدام التعليم والخدمات العامة الاخرى في مناطقهم. وحصل اصحاب عبدربه بدورهم على " وَضِفْ "* اي مجرد مرتبات كانوا سيحصلون عليها في كل الاحوال بدون تحالف وانما من وظائفهم كعسكريين ومدنيين. بل ان التحالف جر عليهم نقمة وسوء سمعة لدى اهلمهم الآن. وبالنسبة للاسلاميين فقد خرجوا بفيد معنوي عابر هو نشر دعوتهم من خلال المعاهد العلمية وشعارات التصدي للشيوعية. لكن اية دعوة اذا كان الفساد المهيمن الآن هو الوحيد الذي استفاد من مشاركتهم؟ كذلك المعاهد العلمية لم تكلف الرئيس من الناحية المالية. فالكلفة في التعليم تحسب: ريال/طالب/سنة. اي ان ماتنفقه الحكومة بآلاف الريالات على الطالب الواحد في السنة هو نفسه سواء كان الطالب تابعا للتربية والتعليم او للمعاهد العلمية.

 

فمتى اذاً اصبح التحالف القديم مكلفاً؟

مع مرور الزمن تطلب عناصر التحالف مزيداً من التمكين مالم مزيداً من الامتيازات كبديل عن مشاركتها في القرارات، الامر الذي يزيد من كلفتها ويبرر التخلص منها. لذلك توالت حلقات معاقبة الكثير من العناصر في تحالف الرئيس لتؤدي في نهاية المطاف الى تآكل التحالف كما نراه الآن.

فبعد تعاون طويل ومستقر مع الرئيس جاء كلام الشيخ عبدالله الاحمر عن نفق مظلم كدليل على مرارة عنصر كبار المشائخ من مآل التحالف. وبالنسبة للاسلاميين فقد اخرجوا من التحالف نهائياً بعد 2001 وسلبت ميزة المعاهد العلمية منهم. وبالنسبة لجماعة عبدربه فقد ظهرت على سبيل المثال في نفس الاثناء اشاعات ومحاولات كثيرة تشهيرية بحق الرجل مثل الحديث عن تماديه في صرف تذاكر سفر لبعض المراجعين لديه، او التلويح باستبداله، وتعرض اخيراً لاهانة ان اوقفته الشرطة في قلب العاصمة. وعبارة مكافأة نهاية الخدمة التي اطلقها د. الارياني في نفس الاثناء دلت على الزحلقة التي تعرض لها عنصر السياسيين المحترفين مثل الارياني وباجمال. وعبارات ادانة الفساد او اولاد الخالة التي اطلقها آخرون دليل على الغبن والهزل الذين عوملوا بهما. كما توجت حلقات معاقبة عنصر الضباط بالتغييرات العسكرية الاخيرة التي فسرت كعقاب لعلي محسن الاحمر واتباعه. هذا بينما استمر انفراد الرئيس بالسلطة والثروة، وهو الانفراد الذي لم يهدده بشكل جدي الا التحرك الشعبي منذ 2004. 

اذن، لمواجهة هذا التهديد والحفاظ على المصالح لابد من بناء تحالف جديد رخيص الثمن. لكن تواتر التحرك الشعبي ومباغتته في بعض الاحيان يجعل الرئيس في سباق مع الزمن لانجاز المهمة. ولنشر الى الجهود الظاهرة لبناء التحالف ومنها: 

– ضم السلفيين ومغازلة القاعديين بدلا عن الاصلاح

– ضم الاحزاب ابو نفر عبر المجلس الوطني للمعارضة ثم عبر دخولها في تآلف مع المؤتمر كان مرشحاً للعب دور في الانتخابات البرلمانية

– ضم او مغازلة عناصر متقلبة او غامضة من السياسيين المحترفين والاعلاميين

– فبركة المحافظين المنتخبين شكلياً والمنقطعين سابقاً من اي تأثير سياسي او شعبي

– تشغيل مشايخ في الشمال ضد الحوثيين

– تشغيل لجان الوحدة في تخريب الحراك الجنوبي    

– العودة الى طلب الاعتماد على الجيران

وبوسع القراء رصد خطوات اخرى تندرج في هذا الاطار.

 

فما الذي يهمنا في كل هذا؟

هناك اوجه للكارثة وراء التحالف الجديد. فالرئيس نفسه قد فقد عملياً صلاحيته بعد 31 سنة في المنصب واي محاولة يقوم بها محكوم عليها بالفشل خاصة في ظرف المقاومة الشعبية المتنامية ولن تزيد الطين الا بلة. وبكلمات اخرى، ليس اعضاء التحالف فقط من فقدو فعاليتهم وانما الرئيس ايضاً. والفرق فقط ان لا احد من هؤلاء الحلفاء او من معارضي الرئيس بادر الي مطالبته بالانسحاب دفعاً لثمن الفشل وتجنباً لاغراق الوضع اكثر مما يحتمل. ولكن المقامرة قد تدفع الرئيس الى المغامرة من جديد ببعض الخيارات. ووجه الكارثة هو ان الخيارات التي تبقى امامه كلها سيئة.

وقد كشف الرئيس عنها دون مهارة في خطابه بتاريخ 26 ابريل 2009. فاما ان بناء تحالف جديد سيمر عبر تفجير الطائفية والمناطقية صراحة كوسيلة لجذب حلفاء مقربين مناطقياً او مذهبياً. وقد عبر الرئيس عن ذلك في نفس الخطاب: نظرية الصوملة وستكونون دويلات وليس دولتين. او ان التحالف الجديد سيتشكل عبر الانقلاب العنيف على الخصوم وخاصة المشترك. وقد عبر الرئيس عن ذلك ايضاً : نظرية المربع رقم 1 والاقتتال من "طاقة لاطاقة". او ان الحل هو الارتماء في احضان الجيران. وهذا لن يعفينا على كل حال من الخيارين السابقين وانما سيثقلهما بعامل اضافي هو الشمولية كاحدى خصائص المربع  رقم1. فضلاً عن ذلك ماهو الثمن الذي سيدفع للجيران؟

يبقى الاحتمال الاخير وهو فيما لو مازال الرئيس فعالاً عكس مانتوقع وامكنه تجاوز العوائق وبناء التحالف، فمن اين سيأتي بالاموال؟ فالاقتصاد والميزانية في وضع حرج ولن يتحملا بعد الآن اية اعباء جديدة مالية. والمجتمع في حالة "قَرَفْ" ولم يعد يتحمل اية معارك وهمية ودعايات فارغة. نذكر بهذا الخصوص ان بناء تحالف جديد لايعني اغلاق الحوش القديم ورمي مقيميه في المعارضة وانما فقط ركنهم مع استمرار الكثير من امتيازاتهم. مما يعني ان التكاليف الكلية ستزيد اكثر فآكثر. وهذا يعطي مجالاً للتكهن حول مصادر تمويل لعبة التحالفات هذه. فاما ان يتم الصرف بوتائر اعلى من عائدات النفط ومن ثم سيتسرع انهيار الاقتصاد والخدمات العامة اكثر واكثر؛ واما ان يتم اللجوء الى الاصدار النقدي ومن ثم تفجير التظخم المالي كما حدث اثناء ازمة وحرب 93-94. وربما نفسر ارتفاع سعر الصرف الاخير الى 205ريال للدولار كاستباق لهذا الاحتمال حيث ان "متشمشمي" السيناريوهات اسرعوا الى شفط اكبر قدر من الدولار المعروض في سوق الصرف. واخيراً ماهو الثمن الذي سيدفع للقاعديين والسلفيين مقابل مشاركتهم في التحالف؟

 

نظرية اضافية من حقل الفئران.

قلنا ان الرئيس في سباق مع الزمن لبناء التحالف الجديد ويحتاج الى مهلة. ويندرج مقاله الاخير للدعوة الى التصالح والتسامح والحوار ضمن الامل بمهلة. نقيب صحفيي الرئيس نصر طه مصطفى قَلًَبَ المقال على كل قٌلْبِِ لابراز فوائده، لكن حسب منهجية تحليل المحتوى لايحتمل المقال شكلا ومضموناً الا قٌلْباً واحداً. فمن ناحية الشكل يمثل  العنوان محاولة مصادرة صريحة لحق ذئاب ردفان الحمر في فكرة التصالح والتسامح التي عمل الرئيس على العكس على وأدها في المهد بدلا من تعميمها شمالاً. ومن جهة التوقيت والحيثيات، فإن المقال في واد والناس في واد آخر، فهناك دعوة المؤتمر الرسمية الى حوار الاحزاب ولا يحتاج الرئيس الاضافة اليها. وبالنسبة للمضمون، فالكلمات في تحليل المحتوى لها دور اساسي في فهم حوافز واهداف الكاتب. لكن معروف عن الرئيس انه لايعرف كتابة المقالات وانما يكتب له آخرون. ومن ثم لايمكن ان نقيم مقال الرئيس لان الكلمات ليست كلماته.

الذي يمكن ان نقيمه فقط هو الفكرة وراء المقال. وهنا، بالاضافة الى نظريات الرئيس، الصادمة للجمهور، في الثعابين والحلاقة والمربع رقم 1….الخ، جاء المقال تطبيقاً لنظرية غير معلنة هي "إجْدَمْ" ثم بَرًِدْ على طريقة الفئران. فالمقال تبريد يشجع حواراً سيعطي مهلة سنتين او اكثر لانهاء السباق. لكن كما قلنا التحركات الشعبية مباغتة وقد اتت حادثة قتلى زنجبار يوم الخميس 23 يوليو وتفجير الحرب السادسة في صعدة ليكشفا هشاشة تكتيك التبريد. والاعلان المتأخر مساء نفس الخميس عن وجود الرئيس في المستشفى منذ الثلاثاء السابق تخفي اشياء عن اضطراب وهشاشة ذلك التكتيك. والمضحك ان انطلت فكرة المقال على نقيب الصحفيين. بينما من حسن الحظ انها لم تنطل على الساسة المخضرمين. فالدكتور الارياني فهم الشغلة واعتذر عن الاستمرار في الحوار كما اشيع. وحتى لو دٌفع مكرهاً الى المشاركة فلن يقود الى نتيجة تخدم المهلة. بدوره د. ياسين سعيد نعمان فهم الشغلة ورأى بان ازالة "الجَدْمة" اهم من التبريد بالنسبة لنجاح الحوار.

خلاصته: اذا كانت وضعية الرئيس هي السبب للهرولة نحو الكارثة فلماذا لاينسحب الرئيس وحده تجنيباً للبلاد هذا المصير؟ اما اذا كان نجاح الرئيس في انجاز بناء التحالف الجديد هو عين الكارثة فان المنتظر هو ان تقطع المعارضة الطريق على الرئيس. والتحركات الشعبية هي القوة الوحيدة الكافية لذلك. يعرف معارضو الرئيس اذاً مايتعين عمله.

 

—————–

هامش:

*  الوَضِفْ شريط قماش يستخدمه الرعاة والشراح لرمي الحجارة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى